انتهت أطول 24 ساعة في تاريخ روسيا بوتين باتفاق بين الكرملين ويفغيني بريغوجين بوساطة لوكاشينكو، فأوقفت فاغنر زحفها نحو موسكو وأسقطت التهم الجنائية ضد زعيمها، فكيف تغيرت الأمور بلا رجعة؟
كانت قوات مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة، بزعامة بريغوجين، قد أوقفت زحفها نحو العاصمة الروسية موسكو، بعد التوصل إلى اتفاق بوساطة من رئيس بيلاروسيا أليكساندر لوكاشينكو، فتم بواسطته نزع فتيل التحدي الأكبر لسلطة الرئيس فلاديمير بوتين خلال أكثر من عشرين عاماً.
وقال بريغوجين، الذي كان يوصف بأنه “طباخ بوتين” قبل الأحداث التي وصفها الرئيس بأنها تمرد مسلح وخيانة وطعنة في الظهر، إن رجاله وصلوا إلى مسافة 200 كيلومتر من العاصمة، بينما كانت موسكو قد نشرت جنوداً استعداداً لوصولهم وطلبت من السكان البقاء في المنازل.
كيف ولماذا بدأ “التمرد المسلح”؟
بدأت الأحداث “المستحيلة” والأخطر في تاريخ روسيا المعاصر مساء الجمعة 23 يونيو/حزيران، بمقطع مصور لبريغوجين اتهم فيه وزارة الدفاع الروسية باستهداف أحد معسكرات قوات فاغنر بصواريخ وقتل المئات منهم، وهو ما نفته وزارة الدفاع الروسية واعتبرته “استفزازاً إعلامياً”.
لم يقدم زعيم فاغنر دليلاً على وقوع الهجوم المزعوم، لكنه وجه انتقادات حادة إلى قادة الجيش الروسي، وهذا الأمر في حد ذاته ليس بجديد، متهماً إياهم بشن هجوم صاروخي مميت على قواته في أوكرانيا.
أعلنت السلطات الروسية، وبالتحديد جهاز الأمن الفيدرالي، فتح تحقيق جنائي ضد بريغوجين، لكن الأخير رفع راية التحدي في وجه الجميع وتعهد بأن “يستمر حتى النهاية” و”يدمّر كل ما يعترض طريقه”، مؤكداً أن قواته دخلت الأراضي الروسية.
وقال في رسالة صوتية نُشرت على منصة التواصل الاجتماعي “تليغرام”، إن “الشر الذي تحمله القيادة العسكرية الروسية يجب أن يتوقف. أولئك الذين قتلوا أبناءنا وعشرات الآلاف من الجنود الروس (في الحرب بأوكرانيا) سيعاقَبون”.
وأضاف بريغوجين: “أطلب منكم عدم المقاومة، أي شخص يفعل ذلك سيعتبر تهديداً لنا وسيتم تدميره. ينطبق ذلك على أي نقاط تفتيش وطيران على طريقنا، لكنه استدرك: “هذا ليس انقلاباً عسكرياً بل مسيرة نحو العدالة. أفعالنا لا تؤثر على القوات الروسية بأي شكل من الأشكال”.
خلال ساعات ليل الجمعة كانت قوات فاغنر قد تراجعت من أوكرانيا إلى روسيا واستولت على مدينة روستوف، مقر قيادة العمليات العسكرية في أوكرانيا، وصباح السبت أعلن بريغوجين أن قواته سيطرت على المدينة دون رصاصة واحدة، وأنه ينتظر قدوم وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري جيراسيموف وإلا فإنه سيتوجه بقواته إلى موسكو.
وبرر زعيم فاغنر أفعاله بهجوم حاد على قيادات الجيش الروسي دون أن يتطرق إلى الرئيس فلاديمير بوتين، مؤكداً أن “تحركه ليس انقلاباً ولكنه مسيرة من أجل العدالة”، لكنه أكد أن “من يقفون في طريقه سيعاقَبون”.
وهنا ظهر بوتين على التلفزيون الرسمي واصفاً ما يحدث بأنه “تمرد مسلح” واعتبره “خيانة لروسيا وطعنة في ظهر الجنود الذين يقاتلون في أوكرانيا”، دون أن يذكر بريغوجين بالاسم، متعهداً بإنزال أقسى عقاب بحق كل من يشارك في هذا التمرد المسلح.
ردَّ بريغوجين على بوتين قائلاً إن الرئيس “أخطأ في وصفه لنا بالخيانة”، ورفض بعدم تسليم نفسه أو أي من رجاله بحسب أوامر الرئيس. وفي هذا الوقت كانت أرتال من المدرعات العسكرية تابعة لـ”فاغنر” قد انطلقت على طريق إم4 المؤدي إلى موسكو، وبدا أن المواجهة الدامية على وشك أن تبدأ.
وساطة رئيس بيلاروسيا بين فاغنر وبوتين؟
كانت الأسئلة هي سيد الموقف خلال تلك الساعات: أين وزير الدفاع شويغو ورئيس هيئة الأركان جيراسيموف؟ وأين قوات الجيش من هذا التحرك من جانب فاغنر نحو موسكو؟ وهل يحظى بريغوجين بدعم قيادات عسكرية في الجيش الروسي؟ وهل يحظى بدعم من أي مؤسسات أخرى داخل روسيا؟
مرت الساعات بطيئة للغاية في انتظار أن تنفجر القنبلة الداخلية، لكن فجأة حدث ما لم يكن متوقعاً وما لم يرشح في التكهنات ولا التحليلات، وهو بيان صادر عن مكتب الرئيس البيبلاروسي أليكساندر لوكاشينكو، يقول إن الرئيس يتواصل مع زعيم فاغنر، بموافقة بوتين وبتعليماته، للبحث عن مخرج للأزمة يحقن الدماء الروسية.
لماذا لوكاشينكو تحديداً؟ لأنه يعرف بريغوجين منذ 20 عاماً وبينهما علاقة صداقة، بحسب التقارير الإعلامية الروسية. لكن ماذا يمكن أن يفعل “الصديق” بعد أن وصلت الأمور إلى هذه النقطة التي بدت بلا رجعة؟ فزعيم فاغنر قرر أن يلقي بأوراقه في لعبة القوة المميتة على طريقة “الروليت الروسي”، وكان الدور على خصومه لإطلاق الرصاص.
لكن فجأة نجحت الوساطة وتم الإعلان عن اتفاق أو صفقة تراجَع بموجبها بريغوجين عن “زحف قواته” نحو موسكو مقابل إسقاط التهم الجنائية ضده وضد رجاله المشاركين في “التمرد المسلح”، وأن يغادر زعيم فاغنر روسيا إلى بيلاروسيا، فانتهت الأزمة الأخطر في تاريخ روسيا الحديث.
المكتب الرئاسي في بيلاروسيا قال إن الرئيس لوكاشينكو توسط في التوصل لاتفاق لوقف التصعيد من جانب مقاتلي فاغنر في روسيا بعد حصوله على موافقة بوتين مقابل ضمانات لسلامتهم.
وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، إنه بموجب الاتفاق سيتم إسقاط الدعوى الجنائية التي رفعت ضد بريغوجين بتهمة التمرد المسلح، وسينتقل إلى روسيا البيضاء، ولن يواجه مقاتلو فاغنر الذين انضموا إلى “المسيرة من أجل العدالة” أي إجراء تقديراً لخدمتهم السابقة لروسيا.
وقال بيسكوف، الذي وصف أحداث اليوم بأنها “مأساوية”، إن لوكاشينكو عرض التوسط بموافقة بوتين، لأنه يعرف بريغوجين شخصياً منذ نحو 20 عاماً.
وقال بيسكوف في شرحه لاحقاً للاتفاق، إن الاتفاق كان له “هدف أعلى” وهو تجنب المواجهة وإراقة الدماء، رافضاً الإفصاح عما إذا كان قد تم تقديم أي تنازلات لبريغوجين، بخلاف ضمانات السلامة له، وهو ما تعهد به بوتين لبريغوجين ورجاله؛ لإقناعه بسحب جميع قواته.
أين وزير الدفاع الروسي؟
ربما يكون السؤال الأبرز في تلك الأحداث هو: أين قيادات وزارة الدفاع الروسية، شويغو وجراسيموف تحديداً؟ وكلاهما يبدو الهدف الرئيسي من وراء تمرد زعيم فاغنر، الذي وصفهما من قبل ومعهما قيادات أخرى بأنهم “حثالة وكلاب”!
فاللافت فيما حدث هو أنه بدا كما لو أن تمرد فاغنر الخاطف يتطور سريعاً دون رد فعل يُذكر من القوات المسلحة النظامية الروسية، مما أثار تساؤلات حول موقف الجيش وقياداته مما يحدث، وحتى بعد التوقف المفاجئ لتقدم فاغنر ونزع فتيل القنبلة قبل أن تنفجر، لا تزال التساؤلات قائمة بطبيعة الحال.
صحيفة التايمز البريطانية نشرت تحليلاً عنوانه “هل أقيل سيرغي شويغو؟”، يرصد الغياب اللافت تماماً لوزير الدفاع رغم أنه الطرف المقصود بهذا التمرد المسلح، الذي تسبب في فوضى مرعبة بالداخل الروسي، مقابل “فرحة” كبرى في أوكرانيا والغرب بطبيعة الحال.
لكن لا يوجد أي رد فعل رسمي من الكرملين بشأن مصير شويغو أو غيره من القيادات التي كانت على مدار الأشهر الماضية هدفاً لانتقادات بريغوجين وشتائمه واتهاماته لهم بالفشل والفساد، وعلى الأرجح سيمر بعض الوقت قبل أن تتضح الصورة بشأن مصير هؤلاء وبشأن مصير بريغوجين نفسه، الذي كان قد ركز على أن “مسيرته” إلى موسكو تهدف إلى طرد القادة الروس الفاسدين وغير الأكفاء الذين يلومهم على إفشال الحرب في أوكرانيا.
وزير الدفاع الروسي ورئيس الأركان
لكن بوتين كان قد قال في خطابه عبر التلفزيون الرسمي، إن التمرد يعرّض وجود روسيا ذاته للخطر: “نحن نناضل من أجل حياة وأمن شعبنا، من أجل سيادتنا واستقلالنا، من أجل حقنا في البقاء. روسيا دولة لها تاريخ يمتد إلى ألف عام”، وتعهد بمعاقبة من يقفون وراء “التمرد المسلح”.
بريغوجين الآن هو أحد أبرز القادة الروس الذين يقودون الحرب في أوكرانيا، حيث خرج من الظل ليأخذ مكانة رفيعة منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. لكن مكانته العامة ونفوذه السياسي وولعه بانتقاد كبار ضباط الجيش وأي شخص آخر في طريقه أثار غضب البعض في الحكومة الذين يريدون كبح جماحه.
الآن وبعد أحداث الأربع وعشرين ساعةً الأخطر في تاريخ روسيا الحديث، قد يكون الأمر الوحيد المؤكد هو أن روسيا بوتين قد تغيرت للأبد وبشكل جذري، فكل شيء بعد هذا التمرد المسلح لن يكون كما كانت عليه الأمور قبله. فالجرح الذي تسببت فيه الأحداث غائر، وبوتين لا يُعرف عنه التسامح مع “الخيانة”، وهو نفسه استخدم المصطلح في توصيف ما حدث، لكن لن تتضح تبعات ما حدث إلا بعد أن يستقر الغبار بطبيعة الحال.
عربي بوست
Discussion about this post