نبيه البرجي
ما حدث في مخيم جنين ـ بالرغم من الاختلال المروع، على كل المستويات، في ميزان القوى ـ ينطوي على دلالات قد تغيّر مجرى الأحداث في الشرق الأوسط. اسرائيل اهتزت من أدناها الى أقصاها، وصولاً الى عظام يوشع بن نون. هل اهتز الدماغ الاسبارطي فيها؟!
هذه دولة قامت على ايديولوجيا الكراهية، والثأر العشوائي، من الآخرين، وان كنا نلتقي، أو نقرأ، ليهود تمكنوا من التفاعل مع الثقافات الأخرى، ومع الأجناس الأخرى، ليصبحوا «الجنس الثالث» من اليهود.
ما تناهى الينا في باريس من آراء فلاسفة، ومؤرخين، وحتى من علماء نفس، يدل على أن الصدمات التي تضرب بعض المجتمعات، من خلال أداء الجماعات الأصولية، لا بد من أن تحدث انقلابات في الخارطة الجينية لهذه المجتمعات، بالطريقة التي تفضي الى نشوء ثقافات مختلفة ورؤى مختلفة.
هؤلاء الفلاسفة والمؤرخون يعتقدون أن تجربة «داعش» في المجتمعات العربية، والاسلامية، أيقظت الكثيرين الذي لم يكونوا يتوقعون أن يكون مفهوم «الصحوة» لدى الأصوليين دموياً، بل ووحشياً، الى ذلك الحد، ما أحدث ردة فعل في اتجاه الطريق الآخر، والعقل الآخر…
أيضاً في اسرائيل ـ وتبعاً لتلك الآراء ـ على العرب أن يشعروا بالارتياح لظهور رجال مثل ايتامار بن غفير، وتسلئيل سموتريتش، وآخرين، لأن هؤلاء، بالفوضى التوراتية (العمياء) انما يجرّون الدولة العبرية الى خيارات لا يمكن أن يستوعبها عالم تتداخل فيه الحضارات، والمصالح، على نحو لا نظير له في التاريخ.
الى عبوات جنين، لم تكن صواريخ غزة التي تحت الحصار القاتل بالقدرات التقنية، أو التفجيرية، لتلك التي في حوزة دول أو مجموعات أخرى معادية لاسرائيل، ما يعني أن الاسرائيليين الذين يجنحون نحو أقصى اليمين، أي نحو أقصى الايديولوجيا، لا بد أن يعيدوا النظر، وان ببطء وبتوجس، في قناعاتهم السياسية أو الفكرية، والى حد الرهان على حدوث تغيير في التشكيل الجيني لليهود.
هذا ليس بالكلام الطوباوي، أو التخيلي. هناك صواريخ هائلة، ويمكن أن توقع عشرات آلاف القتلى ان حاولت «اسرائيل» شن حرب على لبنان، أو سوريا، أو ايران.
حاخامات وجنرالات اسرائيليون يدركون ذلك، ولكن متى التحول؟ دعوة من الفلاسفة، والمؤرخين، لـ»وضع الأرواح (العقول) الشريرة في الخزانة واقفالها باحكام». وفي دعوة أخرى «اقرأوا النصوص التوراتية التي تقرّبكم من الله، وألقوا بالنصوص الأخرى من النافذة». أليس هذا ما دعاهم اليه باروخ سبينوزا منذ نحو ثلاثة قرون؟.
الأرجح أن يكون الشرق الأوسط قد تخلص من مسلسل الحروب. عرب وأتراك وايرانيون أضنتهم الحروب والصراعات التي لا توصل الى مكان. ما حدث في بكين بين السعوديين والايرانيين شكّل تحوّلاً بنيوياً في المعادلات، وفي العلاقات، الاستراتيجية في المنطقة. الأتراك، بدورهم، اكتشفوا أن القوى العظمى لن تسمح لهم، في أية حال، باعادة احياء السلطنة التي ماتت قبل أن تموت «أكثر» في الحرب العالمية الأولى…
تبقى النزاعات الداخلية. من لبنان، وحيث صراع الكراهيات حلّ محل صراع السياسات، الى سوريا التي تحتاج الى لمّ الشمل، والعراق الذي آن الأوان لشفائه من الآفات السياسية، والطائفية، والاتنية، واليمن، بتضاريسه المتعددة الأشكال، وليبيا التي تبحث عن يد تشبه يد عمر المختار لتوحيدها، ومن ثم الصومال، بعذاباته، وبتشققاته، السريالية. ماذا عن تونس، وحيث يصف الليبراليون «الاخوان المسلمين» بـ «الأفاعي التي لا تستطيع العيش الا في الظلام».
واذا كانت حروبنا، وأزماتنا كعرب، ناتجة عن ترسبات تاريخية، أو طائفية، أو قبلية، كما أن صراعاتنا مع المحيط انعكاس للنزعات الأمبراطورية لدى البعض، فقد بات واضحاً أن الولايات المتحدة التي لا ننفي وجهها الآخر كبيئة تفاعلية لكل الحضارات، ولكل الأديان، ولكل الأجناس، هي التي ترعى تلك الحروب، وتلك النزاعات، لتبقى المنطقة، بكل ثرواتها، وبكل مضائقها، وبكل بواباتها، رهينة مصالحها.
قد يكون من مصلحتها وقف الحروب، مبدئياً في الوقت الحاضر. هذا لا ينطبق على الأزمات الداخلية. مثلما سنكون ما بعد أوكرانيا في عالم آخر (والا… العالم الآخر) سنكون في منطقة أخرى، وبمنطق آخر. حتى التفاؤل يحتاج الى سنوات من الشقاء…
Discussion about this post