انتهاء عمليّة التمرّد العسكريّة التي قادَها بريغوجين قائد كتيبة “فاغنر” في أقل من 24 ساعة، ودون إراقة نقطة دم روسيّة واحدة، وعودة الحياة الطبيعيّة إلى العاصمة موسكو بعد إنهاء جميع إجراءات الطّوارئ، كلّها علامات تؤكّد نسْف جميع النظريّات التي انتشرت في الإعلام الغربي، وتتحدّث عن أزمةٍ في المؤسّسة العسكريّة الروسيّة، عُنوانها الأبرز الانقِسام والصّراع بين الجِنرالات والحرب الأهليّة، حتى كأنّ الرئيس فلاديمير بوتين عبد الفتاح برهان، وبريغوجين هو محمد حمدون دوغلو (حميدتي).
نشرح أكثر ونقول إننا لم نسمع أو نقرأ عن ضابط أو جندي واحد في الجيش الروسي انشقّ استجابةً لدعوة قائد ميليشيا “فاغنر”، وانضمّ إلى قوّاته، بل شاهدنا قيادة الجيش، والشعب الروسي تلتفّ حول رئيسها بوتين، وتُعلن الولاء له، الأمر الذي أصاب القِيادات الغربيّة، وخاصّةً في البيت الأبيض، بحالةٍ من الصّدمةِ والإحباط.
بريغوجين قائد مُرتزقة “فاغنر” حرّض الناس في روسيا للنّزول إلى الشّوارع للتخلّص من الخونة في الجيش الروسي، وهدّد بإعدام خُصومه من الجِنرالات الذين قصفوا قوّاته في باخموت، في السّاحة الحمراء في قلب موسكو، ودفن جثّة سيرغي شويغو وزير الدّفاع إلى جانب لينين، ولكن النتائج جاءت عكسيّة، فالانشِقاق حدث في صُفوف قوّاته، و”صديقه” الرئيس بوتين انحاز إلى قادة جيشه في هذه الأزمة، ولم ينجرّ إليه، وزحفه وقوّاته إلى موسكو انفضّ بعد بضعة كيلومترات، وجاءت وساطة لوكاشينكو رئيس بيلاروسيا عجلة إنقاذ.
***
نظريّات المُؤامرة والتّضليل ازدهرت في الإعلام الغربي وبعض أنصار أمريكا في العالم العربي (عددهم يتناقص هذه الأيّام وهذا موضوعٌ آخَر)، ويُمكن حصرها في السّيناريوهات الثلاثة التالية:
الأوّل: أن يكون الرئيس بوتين قد أعدّ بنفسه هذه “المسرحيّة” والهدف هو الإطاحة بقادة الجيش، ووزير الدّفاع شويغو، ولهذا أوعز لقائد “فاغنر” بالتمرّد واستِخدامه كذريعةٍ لتحقيقِ هذا الهدف.
الثاني: إحلال قوّات أحمد الشيشانيّة التي يتزعّمها رمضان قديروف محل قوّات “فاغنر” في أوكرانيا، وربّما دُول أُخرى في إفريقيا، ولُوحظ أن هذه القوّات الشيشانيّة المعروفة بقُدراتها القتاليّة العالية، اندفعت إلى موسكو لمُواجهة زحف قوّات “فاغنر” المزعوم للدّفاع عنها.
الثالث: هذا التمرّد جاء كخطوة ذكيّة “لشرعنة” نقل قوّات “فاغنر” إلى بيلاروسيا (روسيا البيضاء) للقيام بمَهمّةٍ جديدة، وهي اقتِحامُ العاصمة الأوكرانيّة كييف، والسّيطرة عليها، تمامًا مثلما فعل في مدينة باخموت الاستراتيجيّة بعد حرب شوارع شرسة استمرّت تسعة أشهر، فالحُدود البيلاروسيّة لا تَبعُد إلا 40 كيلومترًا عن كييف.
مُعظم هذه السّيناريوهات الثلاثة، إن لم يكن كلّها، لا يُوجد لها أيّ أرجل يُمكن أن تقف عليها، فالرئيس بوتين الذي خرج قويًّا من هذه الأزمة القصيرة الأمَد، لا يحتاج إلى ذريعةٍ أو سببٍ لتغيير وزير دِفاعه، وقادة جيشه، بعد نجاحهم الباهِر في التصدّي للهُجوم الأوكراني المُضاد وإفشاله، أمّا إذا انتقلنا إلى السّيناريو الثاني، أيّ توفير الغِطاء لإرسال قوّات “فاغنر” إلى روسيا البيضاء، فإنّه سيناريو أقرب إلى السّذاجة، فإذا كانَ الرئيس بوتين أرسل أسلحة نوويّة تكتيكيّة إلى روسيا البيضاء، وبالاتّفاق العلني مع رئيسها لوكاشينكو حليفه الأوّل، فهل سيعجز عن إرسال قوّات هذه الميليشيا، ويحتاج إلى غطاءٍ “شرعيّ” في هذا الصّدد، والشّيء نفسه يُقال أيضًا عن السّيناريو الثّالث وهو إحلال كتائب أحمد الشيشانيّة محل ميليشيا “فاغنر” سيّئة الذّكر.
نُعيد ونُؤكّد أن الأزمة بدأت بسبب حالة تضخّم غير مسبوق للذّات عند بريغوجين زعيم “فاغنر” الذي كبر رأسه بعد انتصار قوّاته في باخموت، واعتقد أنه أحق بوزارة الدّفاع من شويغو، ومن الجِنرال فاليري غيراسيموف قائد هيئة أركان الجيش، وربّما أحق من بوتين نفسه في رِئاسة البِلاد، فأعلن التمرّد، وبطريقةٍ تنطوي على الكثير من “الحرَد” و”السّذاجة” مُعتَقِدًا أن أكثر من 150 مِليون روسي وأربعة ملايين ضابط وجُندي سيقفون خلفه، ويدعمون انشِقاقه، ويحملونه على الأكتاف ممّا يُؤكّد أنّه قد يفهم فِعلًا بالطّبخ والنّقانق، ولكنّه قطعًا ليس له علاقة بالسّياسة أو العسكريّة، خاصّةً عندما يتعلّق الأمر بدولةٍ عُظمى مِثل هزيمة نابليون وهتلر، وقد تهزم قريبًا الإمبراطورية الأمريكيّة.
***
هل تقف المُخابرات الأمريكيّة خلف هذا التمرّد، ونجحت بالتّالي في اختِراق ميليشيا “فاغنر” واشترت قائِدها بالمِليارات مثلما تردّد على وسائل التواصل الاجتماعي؟
سيرغي لافروف وزير الخارجيّة الروسي المُخضرم والدّاهية، أعفانا من الإجابة عندما قال في تصريحاتٍ أدلى بها اليوم الاثنين وننقلها حرفيًّا: “الاستخبارات الروسيّة تُحقّق حاليًّا فيما إذا كانت أجهزة استِخبارات غربيّة أمريكيّة مُتورّطة في هذه الأحداث التي وقعت السبت الماضي”، وأكّد “أن احتماليّة تعاون المُخابرات الأوكرانيّة مع ميليشيا “فاغنر” قائمة”.
نختم بالقول “إن انتفاخ بريغوجين وتضخّم ذاته، وطُموحاته العسكريّة والسياسيّة” طعنت حُلفاءه (إذا صحّت أنه مُخترق) وليس الدّولة الروسيّة، بخِنَجرٍ مسمومٍ فِعلًا، وأطاحت به، وقد تنتهي “مُغامرته” بالعُثور عليه مسمومًا، أو ميتًا بعدّة رصاصات في رأسه، فكُلّ الاحتِمالات واردة، خاصّةً بعد تصريحات بوتين بأنّه “قد يَغفِر كُل شيء إلّا الخِيانة”.
نقولها للمرّة الألف، بأنّ الرئيس بوتين لم يتصرّف كضابط مُخابرات سوفييتي، وإنّما كقائدٍ استراتيجيّ “غربي”، عندما لم يثأر بسحق تمرّد قوّات “فاغنر”، وقصف زعيمها بريغوجين بصاروخٍ قاتل، حقنًا للدّماء وتطويقًا للأزمة في مهدها تَجَنُّبًا للخسائر، ولعلّه استفاد من تجربة اقتِحام أنصار دونالد ترامب للكونغرس، فالعُنف لا يقود إلّا للعُنف، والحكمة والتعقّل، وضبْط النّفس، هي الوصفة السّحريّة في مُواجهة الأزمات، خاصّةً في زمنِ حربٍ عُظمى مِثل الحرب العالميّة الأوكرانيّة الحاليّة، وتستهدف تفكيك روسيا ووحدتها الترابيّة والوطنيّة، وبقِيادة دولة عُظمى مِثل أمريكا.. واللُه أعلم.
Discussion about this post