النظريّة “الذهبيّة” التي يُمكن الاستناد إليها لمعرفة السّياسات الرسميّة السعوديّة تُجاه القضايا الاستراتيجيّة العربيّة والدوليّة، تتلخّص أبرز أوجهها في مُتابعة الصّحافة المحليّة وطريقة تغطيتها لهذه القضايا وزيارات المسؤولين العالميين والعرب للعاصمة السعوديّة.
كان لافتًا تجاهُل أجهزة الإعلام السعوديّة، وبشَكلٍ مُتعمّد قطعًا، زيارة أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة الأمريكي للمملكة التي استمرّت يومين وانتهت اليوم، وكان هدفها الأوّل إعادة العلاقات السعوديّة- الأمريكيّة إلى عصرها الذّهبي، قبل تولّي العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز ونجله الحُكم، أمّا هدفها الثاني يتلخّص في تطبيع العلاقات السعوديّة- الإسرائيليّة.
بلينكن ثاني مسؤول أمريكي يزور المملكة في غُضون شهر، حيث سبقه الجِنرال جيك سوليفان، مُستشار الأمن القومي الأمريكي الذي حطّ الرّحال في جدّة في أيّار (مايو) الماضي، لتحقيق الأهداف المذكورة آنفًا، وقُوبِل ببرودٍ شديد من قِبَل المسؤولين السعوديين، وتردّدت أنباء بأنّه انتظر ما يَقرُب من ثلاثة أيّام قبل أن يحظى بلقاءٍ قصيرٍ “فاترٍ” مع وليّ العهد السعودي.
الصّحف السعوديّة نشرت أنباء لقاءات بلينكن مع وليّ العهد السعودي، ووزراء خارجيّة دول الخليج في الصّفحات الداخليّة، وبِبُنطٍ صغير يحتاج من يُريد قراءتها إلى عدساتٍ مُكبّرة في رسالةٍ واضحةٍ تعكس الرّأي العام الرسمي، وبتعليماتٍ من القِيادة السعوديّة العُليا، بينما احتلّت أنباء وصُور وصول اللّاعب الدولي الفرنسي (من أُصولٍ جزائريّة) كريم بنزيما إلى جدّة للانضِمام إلى نادي الاتّحاد الكروي صدر الصّفحات الأولى.
النقطة الأبرز في هذا التجاهل الإعلامي السعودي لزيارة بلينكن تتمثّل في تجاهل أحد الأسباب الرئيسيّة على جدول أعمالها، وهي تطبيع العلاقات السعوديّة الإسرائيليّة ممّا يعني عدم تجاوب القِيادة السعوديّة لهذا البند، وتمسّكها بمواقفها الرّافضة للتّطبيع، وأكّد الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجيّة السعودي هذا الموقف في مُؤتمره الصّحافي في ختامِ الزّيارة عندما قال وبكُلّ تهذيبٍ مقصود “نُؤمِن بأنّ التّطبيع مع إسرائيل سيُفيد الجميع، ولكن بُدون سلامٍ للشّعب الفِلسطيني، وحُصوله على دولةٍ مُستقلّة، فإنّ فوائد التّطبيع ستكون محدودةً”.
الرّد السعودي الحاسِم والقويّ على التّصريحات “الوقحة” التي وردت على لسان يسرائيل كاتس وزير الطّاقة الإسرائيلي الذي أبدى مُعارضةً لفكرة تطوير السعوديّة برنامج نووي سِلمي كجُزءٍ من تطبيع العُلاقات بين كيانه والسعوديّة جاء أيضًا على لسان الأمير بن فرحان عندما كشف للمرّة الأولى “أن المملكة تُطوّر برنامجها النووي المحلّي، وأن واشنطن ودُوَلًا أُخرى تُريد المُشاركة في هذا البرنامج”، أيّ أن المملكة لا تهتم لهذه المُعارضة الإسرائيليّة، وأن امامها عُروضًا كثيرةً لتطوير هذا البرنامج ومن دُوَلٍ غير واشنطن في إشارةٍ إلى روسيا والصين، وربّما إلى إيران “حليفها” الجديد.
القِيادة السعوديّة حسمت خِياراتها، وأعادت رسم خريطة تحالفاتها الاستراتيجيّة الدوليّة، وزيارة بلينكن الفاشلة هذه، ونتائجها جاءت انعكاسًا صريحًا لهذه المُتغيّرات، ولهذا لم يُفاجئنا أنّ المملكة استقبلته بتخفيض إنتاج النفط، لرفع أسعاره، بالتّنسيق مع روسيا، وفي تَحَدٍّ صريحٍ للمطالب الأمريكيّة برفع الإنتاج، وتكذيب الأنباء التي تحدّثت عن تدهور العلاقات النفطيّة السعوديّة الروسيّة.
السعوديّة تقف اليوم في خندق التحالف الصيني الروسي، وتدعم عالمًا مُتعدّد الأقطاب مع ترك الباب مُواربًا مع الولايات المتحدة والغرب، ربّما تمهيدًا لغلقه بصُورةٍ شِبه نهائيّة، ولعلّ تقدّمها بطلبٍ للانضِمام إلى منظومة “بريكس” وعُضويّة مصرفها الدّولي للتنمية البديل لصندوق النقد والبنك الدوليّين، ودعم مشروع النظام المالي الجديد البديل لهيمنة الدولار، هو أحد أكبر الخطوات الرئيسيّة في هذا الإطار.
الأمر المُؤكّد أن بلينكن، بعد أن فشلت زيارته في تحقيق مُعظم أهدافها، إن لم يكن كلّها، سيعود إلى واشنطن مُكتئبًا.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”
Discussion about this post