بعد عودة الجامعة العربيّة إلى سورية، ومُشاركة الرئيس بشار الأسد في القمّة التي انعقدت في مدينة جدّة، وتأكيد الأنباء التي تحدّثت عن لقاءاتٍ سوريّة أمريكيّة في مسقط برعايةٍ عُمانيّة، لم يبق أمام المُعارضة السوريّة، أو ما تبقّى منها، أيّ خِيارٍ آخَر غير الجُلوس وجهًا لوجه، مع المسؤولين في دِمشق لتسوية أوضاعهم وشدّ الرّحال إلى العاصمة السوريّة على ظهر طائرات “خضراء” بعد أن تخلّى عنهم جميع حُلفائهم دُون استثناء، والأتراك والقطريّون على وجه الخُصوص، وبعد أن انتهى دورها وانحَرقت ورقتها.
البيان الذي صدر في ختام يومين من مُباحثاتٍ جرت في جنيف وشارك فيها 28 عُضوًا من أصل 36 من أعضاء الهيئة العُليا لهذه المُعارضة، تُميط اللّثام عن مُؤشّرات حُدوث انقلاب جذري في موقفها السّياسي، أبرز عناوينه التّسليم بالأمْر الواقع، والمُتغيّرات الإقليميّة والدوليّة، وفشل كُلّ الرّهانات على تغيير النّظام في دِمشق، خاصّةً الفقرة الأهم فيه (البيان) الصّادر اليوم وتقول فيه “اتّفقت الأطراف المُشكّلة للهيئة العُليا للمُعارضة السوريّة على بيانٍ مُوحّد اعتبرت فيه أن التطوّرات الدوليّة والإقليميّة والسوريّة الحاليّة، والحِراك النّشط الخاص بالمسألة السوريّة تُؤمّن ظرفًا مُناسبًا لاستِئناف المُفاوضات المُباشرة (مع دِمشق).
ثلاثة تطوّرات مُهمّة حدثت في الأيّام القليلة الماضية عجّلت بصُدور هذا البيان:
الأوّل: فوز الرئيس رجب طيّب أردوغان في الانتخابات الرئاسيّة، وحزبه العدالة والتنمية بأغلبيّة المقاعد في البرلمانيّة، واتّخاذ قرارًا بالانفتاح على جميع الخُصوم السّابقين خاصّةً مِصر وسورية ودول الخليج ووضع مُعظم، إن لم كُل بيضه، في سلّة التّحالف الروسي الإيراني، أيّ عكس ما كانت تتوقّعه المُعارضة السوريّة والمِصريّة المُتمثّلة في حركة الإخوان.
الثاني: تسليم قطر ماهر الدغيم المُعارض ورجل الأعمال السوري بعد سحب جنسيّته التركيّة، وإبعاده إلى الدوحة، حيث كان في انتظاره جواز سفر صدر عن السّفارة السوريّة فيها، ومِقعَد على الطّائرة المُغادرة إلى دِمشق.
الثالث: غسْل القِيادة التركيّة بشَكلٍ مُتسارع أياديها من المُعارضة الإخوانيّة المِصريّة، ومُطالبتها قيادتها بمُغادرة تركيا، والبحث عن ملاذٍ آخر، وتمثّلت هذه الخطوة “غير المُفاجئة” في سحب تصريح الإقامة من الدّاعية الشّهير وجدي غنيم، أحد أبرز قادة الحركة الإخوانيّة، وحِرمانه من الجنسيّة التركيّة رُغم إقامته في البِلاد أكثر من تِسعِ سنوات.
هذه التطوّرات الثلاثة، وحظر مُعظم المنابر الإعلاميّة الإخوانيّة في تركيا قبلها، وتشتيت العاملين فيها، علاوةً على إعادة “منصّة موسكو” إلى الهيئة العُليا للمُعارضة السوريّة بعد إبعادها عام 2019 بسبب موقفها الدّاعي للحِوار مع السّلطة في دِمشق، كلّها تُوحي بأنّ الدّولتين الدّاعمتين لهذه المُعارضة، إلى جانب الولايات المتحدة، أو بإيعازٍ منها، حتّمت عليها التّماهي مع المُتغيّرات الدوليّة والإقليميّة التي تحدّثت عنها في بيانها، والتوجّه نحو المُصالحة مع السّلطات السوريّة، وتقليص الخسائر من خِلال التخلّي عن مُعظم المواقف السّابقة.
المُفاوضات المُباشرة مع النّظام في دِمشق يُمكن أن تكون “السُّلَّم” الذي سيُنزّل هذه المُعارضة من عن قمّة الشّجرة العالية التي تسلّقتها بدَعمٍ من الأمريكيين ودُولٍ عربيّة ضخّت مِئات المِليارات وآلاف المُسلّحين لإيصالها إلى السّلطة، بعد إسقاط النظام “سِلمًا أو حربًا” وإنقاذ ماء وجْه الجميع من خِلال اتّفاق “شكلي” يسمح بإشراك بعض الشخصيّات المُعارضة في حُكومةٍ جديدة.
السّلطات السوريّة التي أصدرت عفوًا عامًّا أكثر من مرّةٍ، وقُبول “توبة” من شقّوا عصا الطّاعة عليها، بِما في ذلك من حملوا السّلاح، من غير المُعتَقد أن تُعارض المُصالحة ورُموزها، وإشراكهم في الحُكم، وربّما منحهم بعض الوزارات “كبدايةٍ” مِثل وزارات “المُواصلات” و”الشّباب” و”البيئة”، إرضاءً لبعض الدّول التي رفعت الحظر عن عودة سورية إلى الجامعة العربيّة، وأعادت فتْح سفاراتها في دِمشق وفرشت السجّاد الأحمر للرئيس السوري الذي زارَ عواصِمها.
تركيزنا على المُعارضة السوريّة السياسيّة لا يعني أنّنا نتجاهل الأخرى المُسلّحة التي تتمركز حاليًّا في إدلب وريفها، ولا نستبعد أن مصير هذه المُعارضة قد تقرّر في الاجتماعات التي جرت على مُستوى قادة المُخابرات، ووزراء الدّفاع والخارجيّة السوريّة التركيّة، برعايةٍ إيرانيّة روسيّة، وسيتم اعتماده نهائيًّا في القمّة المُنتَظرة والوشيكة بين الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره التركي رجب طيّب أردوغان في موسكو وإعادة العلاقات كاملةً بين البلدين، والتّنسيق الأمني على أرضيّة اتّفاق “أضنة”.
تركيا انحازت للمُعسكر الروسي الإيراني، والرئيس أردوغان أدار “مُعظم” ظهره لأمريكا والدّول الأوروبيّة، وتعزّز هذا الانحِياز بفوزه الأخير على مُعارضةٍ تُركيّةٍ تحشّدت لإسقاطه بدَعمٍ أمريكيّ أوروبيّ.
المُعارضة السياسيّة ستذهب إلى دِمشق، ولكنّ سُؤال المِليون دولار هو أين ستذهب المُعارضة المُسلّحة وعتادها الثّقيل، ومِئات الآلاف من مُقاتليها وعائلاتهم.
الأسابيع المُقبلة، والتطوّرات المُحتَملة على الأرض ستُجيب عن هذا السّؤال، وكُل الأسئلة الأخرى المُتفرّعة عنه، والأمْر المُؤكّد أن المُعارضة السوريّة التي نعرفها تتغيّر وتُصبح أكثر واقعيّةً بعد أن خذلها حُلفاؤها، والعرب والأتراك منهم على وجْه الخُصوص.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”
Discussion about this post