شبكة أخبار سوريا والعالم/ worldnews-sy.net
عاد الحديث مجددًا عن خط كركوك–بانياس النفطي، أحد أبرز مشاريع البنية التحتية للطاقة في الشرق الأوسط، بعد سنوات طويلة من الإهمال والتوقف. الخط، الذي شُيّد في خمسينيات القرن الماضي، كان يُعد شريانًا اقتصاديًا يربط بين النفط العراقي وسواحل البحر المتوسط عبر سوريا، بطاقة ضخ تصل إلى 300 ألف برميل يوميًا.
ورغم توقّفه بشكل نهائي عام 2003 بعد تعرضه لأضرار جسيمة خلال الغزو الأميركي للعراق، فإن ملف إعادة تشغيله عاد بقوة إلى طاولة المباحثات، في ظل ظروف إقليمية ودولية متغيرة جعلت من أمن الطاقة أولوية استراتيجية.
بغداد ودمشق تبحثان إعادة تشغيل خط كركوك–بانياس
أعلنت الحكومة العراقية مؤخرًا عن بدء مشاورات فنية مع نظيرتها السورية لبحث إعادة تأهيل خط كركوك–بانياس، الذي يمتد على مسافة 850 كيلومترًا. وأكد مظهر محمد صالح، مستشار رئيس الوزراء العراقي، أن المشروع يُنظر إليه كخيار استراتيجي لتعزيز قدرة العراق على تنويع طرق تصدير النفط وتحسين أمنه الطاقي.
لماذا يعود المشروع الآن؟
عودة الاهتمام بخط كركوك–بانياس ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة تغيرات كبرى في الواقع الجيوسياسي والاقتصادي العالمي، لا سيما بعد حرب أوكرانيا التي قلبت موازين الطاقة وأعادت تشكيل شبكات الإمداد بين الشرق والغرب. دول كثيرة، من ضمنها العراق، بدأت تنظر إلى خطوطها القديمة كأدوات مرنة لمواجهة اضطرابات الأسواق وتقلّب الأسعار.
في هذا السياق، فإن إعادة تفعيل الخط لا تأتي بديلاً للمسارات الحالية، بل كجزء من استراتيجية تحوّط جيو–اقتصادي توفر بدائل متعددة لصادرات النفط، وتقلّل من الاعتماد على مسارات محدودة قد تتأثر بالأزمات السياسية أو الأمنية.
سوريا: استعادة لدورها الجغرافي ومصدر دخل محتمل
بالنسبة إلى دمشق، فإن المشروع يشكّل أكثر من مجرد خط نفطي؛ إنه محاولة لإعادة تفعيل “اقتصاد العبور” الذي كان يشكّل أحد روافد الاقتصاد السوري قبل الحرب. فمن خلال موقعها الاستراتيجي، يمكن لسوريا أن تتحول من هامش جغرافي إلى مركز لوجستي يربط الخليج بالمتوسط، ويستقطب مشاريع استثمارية في مجالات الطاقة والنقل.
ويرى خبراء أن المشروع يمكن أن يساهم في تعزيز موقع سوريا الإقليمي، وخلق فرص عمل، وتحقيق إيرادات من رسوم الترانزيت والخدمات اللوجستية، خاصة في ظل حاجة البلاد إلى مشاريع تنموية طويلة الأمد.
تحديات سياسية وقانونية أمام المشروع
ورغم الإيجابية الظاهرة في الطرح، إلا أن تنفيذ المشروع يواجه عدة عوائق قانونية ومؤسسية، بحسب دراسة لمعهد “واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، الذي أشار إلى أن غياب الشفافية في عقود النفط داخل سوريا يُعد من أكبر التحديات. كما تتطلب إعادة تشغيل الخط استثمارات ضخمة لإعادة التأهيل، وسط بيئة أمنية غير مستقرة في بعض المناطق.
تكامل إقليمي بدلًا من الاصطفاف السياسي
يرى محللون أن التعاون بين بغداد ودمشق في هذا المشروع يعكس تحوّلًا في السياسة العراقية تجاه سوريا، قائمًا على البراغماتية الاقتصادية عوضًا عن الانحيازات السياسية. فالعراق يعتبر استقرار سوريا جزءًا من أمنه الوطني، ويسعى إلى تطوير علاقات اقتصادية متوازنة تشمل ضبط الحدود ومشاريع الطاقة المشتركة.
الاقتصاد التبادلي: مفهوم جديد لدور سوريا في الإقليم
بحسب الباحث الاقتصادي جابر الكرمي، فإن إعادة تفعيل خط كركوك–بانياس يُمثل نموذجًا لما يسمى بـ “الاقتصاد التبادلي”، الذي لا يعتمد فقط على الإنتاج بل على تقديم الخدمات العابرة مثل العبور والتخزين والنقل. ويضيف أن هذا التوجه يمكن أن يكون حجر أساس لإعادة بناء الاقتصاد السوري على أسس واقعية تستند إلى الجغرافيا كبنية إنتاجية.
الرأسمال الجغرافي: تحويل الموقع إلى أصل اقتصادي
تملك سوريا ما يسميه البعض بـ”رأسمال الجغرافيا”، أي القيمة الكامنة في موقعها الجغرافي بين آسيا وأوروبا، والخليج والبحر المتوسط. ومن خلال إعادة تفعيل خطوط النقل والطاقة، يمكن لهذا الموقع أن يتحول إلى أصل اقتصادي طويل الأمد، بشرط وجود مؤسسات قادرة على إدارة الموارد واستقطاب الاستثمارات الأجنبية ضمن بيئة قانونية شفافة.
خطوط الطاقة كأدوات دبلوماسية
الخبرة العالمية توضح أن خطوط الأنابيب ليست مجرد مشاريع اقتصادية، بل أدوات لإعادة صياغة العلاقات السياسية. فكما شكل خط “باكو–تبليسي–جيهان” في القوقاز، ومشروع “إيست مِد” في شرق المتوسط، محاور استراتيجية، فإن خط كركوك–بانياس قد يصبح منصة إقليمية للتعاون بدلًا من التنافس.
مشروع بعيد، لكن ممكن التحقيق
في النهاية، فإن إحياء خط كركوك–بانياس ليس مشروعًا قريب التنفيذ، لكنه لم يعد مستبعدًا أيضًا. فمجرد عودته للنقاش الرسمي يعكس تغييرًا في تفكير صناع القرار في العراق وسوريا، واستعدادًا لمرحلة من التكامل الاقتصادي الإقليمي قد تعيد رسم ملامح الشرق الأوسط خلال العقود القادمة.
تلفزيون سوريا












Discussion about this post