اخبار سوريا والعالم/ worldnews-sy.net
بعد أكثر من 10 أعوام من الغياب والصمت، كسر فاروق الشرع نائب الرئيس السوري الأسبق جدار العزلة، ودوَّن روايته الخاصة لأكثر المراحل السياسية غموضاً وحساسية في التاريخ السوري الحديث.
لا تكمن أهمية الجزء الثاني من مذكرات فاروق الشرع (الجزء الثاني 2000 – 2015) التي صدرت مؤخراً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في ما قاله فحسب، بل في الرسائل الضمنية التي تكشف بنية السلطة داخل النظام المخلوع، فالرجل الذي كان لعقود وزيرا للخارجية في عهد الأسد الأب، واستمر في هذا المنصب لسنوات في عهد بشار الأسد ثم نائباً له، غاب بصمت مريب منذ العام 2013، بينما تكررت الشائعات بين فترة وأخرى عن انشقاقه أو إخضاعه للإقامة الجبرية.
وكان الشرع قد أوصى بنشر هذا الجزء من مذكراته بعد وفاته، إلا أن سقوط النظام جعله يوافق على نشرها مؤخراً. هي ليست سرداً شخصياً فحسب، بل وثيقة تكشف آليات الإقصاء داخل الدولة الأمنية، وتعيد تعريف “الولاء والخيانة” من منظور من عرف السلطة من داخلها، ورفض أن يكون أداة في ماكينة القمع في نظام الأسد المخلوع.
مسرحية الحوار الوطني
في تموز 2011 أعلن النظام المخلوع تشكيل “هيئة الحوار الوطني” برئاسة فاروق الشرع، في محاولة لامتصاص زخم الانتفاضة الشعبية، التي بدأت تتوسع رقعتها يوماً بعد يوم، ولكن شهادة الشرع في هذه المذكرات تكشف عن ضيق هوامش التحرك داخل منظومة الحكم، واحتكار القرار من قبل بشار الأسد.
حاول الشرع في المشاورات التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني مناقشة القضايا الجوهرية كإلغاء المادة الثامنة من الدستور، قائلاً بصراحة: “كل الإصلاحات لا معنى لها بوجود المادة الثامنة”، معبراً عن قناعته بأن احتكار حزب البعث للحياة السياسية يفقد أي عملية حوار مصداقيتها، مضيفاً في السياق نفسه: “عدم مناقشة المادة الثامنة يعني استمرار احتكارنا للحياة السياسية، ويتناقض هذا الاحتكار مع تشكيل هيئة الحوار نفسها”.
ويظهر من خلال المذكرات أن الشرع كان يعي تماماً أن ما يجري هو محاولة لاحتواء الغضب الشعبي من دون تغيير حقيقي، حين قال: “إننا في النظام وأنتم في المعارضة سنندم جميعاً في المستقبل إن لم نشارك لإنجاح الحوار الوطني”.
لكن بشار الأسد كما ينقل الشرع رفض مناقشة المادة الثامنة، وصلاحيات الرئيس، كما رفض أيضاً نقل جلسات الحوار تلفزيونياً: “الرئيس قال لي إنه لا يفضل بث الجلسات على الهواء.. وأن هناك خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها”. وهذا يكشف بحسب الشرع رغبة واضحة في ضبط مخرجات الحوار مسبقاً، وعدم إفساح المجال أمام أي تحول سياسي حقيقي.
يضيف الشرع: “لم يكن الرئيس مرتاحاً لفكرة النقل التلفزيوني المباشر، لكن بعد مناقشة طويلة معه وافق مشروطاً أن يكون البث لجلسة الافتتاح فقط”. وقد انقطع البث بالفعل من بعدها، ولم يتصور الناس– بحسب ما قاله الشرع: أن “الرئيس هو الذي أمر بقطع الإرسال التلفزيوني، لأنه وحده يملك صلاحية الأمر بذلك”.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ يعترف الشرع بأن اقتراحاته لجذب شخصيات معارضة مستقلة للحوار جوبهت بالتجاهل قائلاً: “الرئيس هو مفتاح المدعوين من الخارج.. لكن لم يجر مع الأسف، أي مسعى لطمأنتهم”.
في المحصلة تفككت “هيئة الحوار” وانتهت إلى مؤتمر شكلي لم يغير شيئاً، ليؤكد الشرع بكل أسف أن “ما قدم في هيئة الحوار من قوانين تخص الأحزاب والإعلام وغيرها، لم ينفذ منها شيء خلال السنوات الست المنصرمة”، ليختم الشرع هذا المحور بالقول: لم يجر حديث بيني وبين الرئيس أو القيادة عن مخرجات المؤتمر، لأنه كما يقول المثل السوري “المكتوب يظهر من عنوانه”.
أرسل تجاهل توصيات الحوار الوطني، وتجميد نتائجه، مع استمرار آلة القمع العسكري رسالة واضحة إلى الشرع وإلى غيره من دعاة الحل السياسي داخل النظام، أن بشار الأسد ماضٍ في الحل العسكري من دون تردد، يدعمه في هذا القرار قيادات أمنية وعسكرية.
يذكر الشرع أنه حاول مع بعض أعضاء القيادة القطرية تحذير بشار الأسد من خطورة المضي بالحل العسكري للأزمة خلال لقائهم به، إلا أن بشار امتعض من هذا الرأي قائلاً: “إن أسلوب الخارجية لم يعد مجدياً، وأنا من الآن فصاعداً سأقوم بالعمل من تحت الطاولة، لأن ذلك سيعطي نتائج أفضل”.
ومع تصاعد الأوضاع شعر الشرع أن كل صوت في النظام أصبح صامتاً أمام ما أسماها “القوة الخفية” التي تتحكم بكل الأمور خلف الكواليس: “هم يتصرفون بمقدرات الحزب الحاكم والدولة كأنهم ورثتها الحصريون”.
في تلك اللحظة أدرك الشرع أن “الحوار السوري ـ السوري جرى اغتياله، والحوار السوري ـ العربي أفشل، ولم يتبقَ سوى احتمال بعيد لحل دولي، ستكون الضحية فيه سوريا، بسبب تناقضات المصالح الدولية”. وبالتالي قرر أن يتوقف عن الذهاب إلى مكتبه، والاعتزال في منزله، لأنه وجد “ألَّا آذان صاغية، ولا النصيحة باتت تجدي” على حد قوله.
ورغم كل المحاولات لإقناعه بالعودة، فإن الشرع كان قد اتخذ قراره المصيري، ومن بين أولئك الذين زاروه (وكلهم لم يكونوا من الحكومة الخفية بحسب تعبير الشرع ) اللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني، والدكتورة نجاح العطار نائبة الرئيس، إضافة إلى هيثم سطايحي عضو القيادة القطرية، الذي يظن الشرع أن زيارته كانت “بعد أن استشار رئيس الجمهورية، ولفهم ما أفكر به”، إلا أن الشرع رد على هذه الدعوات بالقول: “عندما يرتئي الرئيس إعادة عجلة الحوار السوري ـ السوري ويزودني أو يزود غيري بصلاحيات حقيقية لإنجاحه، فعندئذٍ فقط أكون موجوداً”.
كان الشرع يعلم أن العودة في ظل هذه الظروف ستعني موافقة ضمنية على أفعال نظام سياسي لم يعد يثق فيه، نظام تسيطر عليه “السلطة الخفية” التي كانت تعارض وتعطل كل فرصة للحوار أو الحل السياسي، ولطالما تهكم الشرع على مقولة بشار الأسد الشهيرة بأن “الحل السياسي، سيكون موازياً للحل العسكري”، بالقول “في العلوم الخطان المتوازيان لا يلتقيان”.
ويصف الشرع قرار اعتزاله العمل السياسي بالقول: كان استمرار وجودي في الحكم لفترة أطول وغير محددة بحل سياسي واقعي سيعني موافقتي على هذا النهج المدمر للبشر والحجر، ويستشهد الشرع في هذا السياق بقول الإمام علي: “إذا سكت أهل الحق على الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق”.
القيادة تعزل الشرع
في تموز 2013، لم يكن مؤتمر حزب البعث سوى ستار رقيق لعملية تصفية سياسية داخلية، انتهت بإقصاء فاروق الشرع نهائياً من دائرة القرار. روى الشرع الذي كان وقتئذ لايزال من الناحية الشكلية نائباً للرئيس وعضواً في القيادة القطرية للحزب كيف تم استدعاؤه إلى اجتماع مغلق عشية عقد المؤتمر، حضره محمد سعيد بخيتان الأمين القطري، وهيثم سطايحي، وأسامة عدي واقترحوا على الشرع لقاءً فردياً مع الأسد تحت شعار “مصلحة الحزب”.
رفض الشرع الفكرة وأدرك أن الأمر لا يتعدى محاولة استيعاب صوته المعارض للحل العسكري، فكما قال: “ألمح البعض إلى أن ما دار بيننا سيصل حتماً إلى مسامع الرئيس، وانصرفنا لأن مزيداً من النقاش لن يغير شيئاً”.
في اليوم التالي عقد المؤتمر داخل قصر الشعب، من دون انتخابات، ولا شفافية، ولا حتى حضور كامل لأعضاء اللجنة المركزية، بل جُلب أشخاص اختيروا من قبل الأسد وأجهزته الأمنية. وجه المتحدثون بحسب الشرع سيلاً من الانتقادات للقيادة الحزبية كلها ما عدا بشار الأسد، الذي بدا ساخراً من بخيتان الذي جلس على كرسي مخلخل، يعلو ويهبط، في مشهد وصفه الشرع بالقول: “لا يستطيع أحد وصف هذه الحالة بروحها الساخرة إلا الكاتب الروسي أنطون تشيخوف”.
ثم أعلن الأسد من غرفة جانبية تشكيل قيادة جديدة (لم تضم أي اسم من القيادة القطرية السابقة) من دون تصويت، واستُبعد الشرع نهائياً، لا لأنه فشل حزبياً، بل لأنه كما قال “كان من وجهة نظر الرئيس العقائدية لا يؤيد الحل العسكري”. بعد المؤتمر أُغلق مكتب فاروق الشرع كنائب للرئيس، وتم تسريح جميع الموظفين، حتى عمال النظافة، وتم توزيع نسبة منهم في وزارات مختلفة، ووصلت تعليمات صارمة بمنع زيارة فاروق الشرع أو التواصل معه من قبل أي موظف في الدولة.
في نهاية مذكراته يُحمل الشرع الجهات الرسمية مسؤولية الشائعات التي دارت حول مصيره بالقول: من غير الموثق في الصحف الرسمية متى تركت منصبي الأخير نائباً للرئيس، ولم توضح القيادة التي كنت عضواً فيها، فيما إذا كنت قد قدمت استقالتي من الحزب أو أُقلت منه. ولا يبدو أن معظم الناس يعرفون حقيقة الوضع الذي كنت فيه، فقد تُرك الأمر لتكهنات وسائل الإعلام العربية والأجنبية. فتارة تعتبرني منشقاً عن النظام، وتارة أخرى في إقامة جبرية أو خاضعاً لحماية دولة كبرى!
ختاماً يبدو واضحاً من خلال قراءة ما بين سطور هذه المذكرات أن الشرع لم يقصَ من المنصب فقط، بل من الحياة السياسية والاجتماعية برمتها، لقد تم نفيه داخلياً بصمت، لأنه قال: لا للقتل، فكانت نهايته نهاية رجل حاول أن يكون صوت العقل وسط هدير السلاح، فاختار النظام أن يصمت العقل ليعلو صوت المدفع عالياً.
تلفزيون سوريا












Discussion about this post