اخبار سوريا والعالم/ worldnews-sy.net
لم تكن الهزيمة الساحقة التي تعرض لها حزب الرئيس ماكرون في الانتخابات الأوروبية أمام حزب التجمع الوطني بزعامة لوبان أمراً مفاجئاً, وأتت نتائج الإنتخابات في فرنسا مشابهة لتلك الحاصلة في ألمانيا وإيطاليا والمجر وسلوفاكيا, واقتراب نظرائهم من الوصول إلى السلطة في السويد وهولندا وبلجيكا والنمسا, بما يؤكد أن المد اليميني أصبح حالةً لا يمكن تجاهلها, وبات نقطة تحول جوهري على مستوى القارة العجوز, في وقتٍ رأى فيه البعض ما حصل في فرنسا هو فرصةً استغلها الناخبون للتعبير عن معارضتهم لمجمل سياسات ماكرون وحكومته.
وقد دفعت نتائج الإنتخابات الكارثية الرئيس ماكرون للإعلان عن حل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة تكون جولتها الأولى في 30 حزيران والثانية في 7 تموز.
كذلك لم يكن مفاجئاً حصول ممثل لوبان “جوردان بارديلا” صاحب الـ 28 عاماً, على ضعف الأصوات التي ما حصلت عليها “فاليري هاير” ممثلة ماكرون, بعدما حصد شعبية كبيرة نتيجة تركيز حملته على أخطاء ماكرون وتقصيره وحكومته في معالجة الملفات الداخلية, كالهجرة غير الشرعية, وانعدام الأمن, وتزايد محاولات القتل والإغتصاب التي تضاعفت في عهد ماكرون, وقد اعتبر بارديلا أن نتائج الإنتخابات في فرنسا وأوروبا بأنها “رسالة واضحة للزعماء الأوروبيين, تعكس رغبة الفرنسيين في رؤية أوروبا وهي تسير نحو تغير مسارها”, ووَصف المشهد على أنه البداية لـ “رياح الأمل التي تهب على فرنسا”.
لا غرابة بأن يشعر ماكرون أيضاً بهبوب ذات الرياح التي تسبب بها عن قصد أو بدون قصد, وتحذيراته التي أطلقها أثناء زيارته الأخيرة إلى ألمانيا, من “رياح سيئة تهب على أوروبا”، معتبراً أن “صعود أحزاب القوميين (اليمين المتطرف) والديماغوجية في فرنسا يشكل خطراً على فرنسا”, خصوصاً وأن باريس بصدد استضافة الألعاب الأولمبية الشهرالقادم.
في وقتٍ اعتبر فيه البعض أن قيام ماكرون بحل لبرلمان وبالدعوة إلى انتخابات مبكرة هو”مخاطرة محسوبة أو مقامرة مجنونة” قد لا يخرج منها ماكرون سالماً, وقد تكون جزءاً من خطته الخفية لإرضاء المارد الأمريكي الذي لطالما سار في ركبه, على وقع تزايد الزحف اليميني في فرنسا والذي لم يحصل بشكل مفاجئ, لا بل تقدم خلال السنوات التي فشل فيها ماكرون في علاج تآكل سلطته البطيء, وعجزه عن تنفيذ وعوده, وبإتباعه سياسات أدت إلى تفاقم الأزمات الداخلية وتدهور الحالة المعيشية, واستمرار الهجمات الإرهابية داخل فرنسا, وعدم قدرته السيطرة على الهجرة غيرالشرعية, وتفاقم حالة الفقر وتراجع الخدمات الوطنية, أمورٌ بمجملها ساعدت لوبان وبارديلا على إختراق الجمعية الوطنية والفوز بـ 88 مقعد في انتخابات عام 2022.
كذلك لا يمكن تجاهل انخفاض شعبية الرئيس ماكرون ونسب تأييده, ومواقفه من الحرب في أوكرانيا, ووعوده بزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا, وبتوريد الأسلحة النوعية والصواريخ والطائرات الحديثة والمقاتلين, بالإضافة إلى مشروعه بإرسال القوات الفرنسية إلى أوكرانيا ومواجهتها القوات الروسية ..وغير مواقف.
ناهيك عن العقوبات على روسيا والتي يرفضها غالبية الفرنسيين, ومع ذلك حاول إقحام ملف الحرب الأوكرانية في الانتخابات, واستغلاله إحتفالية ذكرى “إنزال النورماندي”, للتحذير من خطر تقدم اليمين المتطرف, في الوقت الذي رحبت فيه لوبان بخطابه معتبرة أنه يساهم “بزيادة الحشد وراء قاعدتها الانتخابية”, ورحبت بقرار حل البرلمان, وأكدت استعداد تجمعها الوطني لممارسة السلطة، ولوضع حد للهجرة الجماعية، ولجعل القوة الشرائية أولوية، ولإعادة “إحياء فرنسا”.
لم تشهد فرنسا الحديثة منذ تأسيسها حالةً مشابهة من الفوضى وتهالك وتراجع مكانتها وهيبتها ونفوذها ومصالحها حول العالم, على الرغم من الشعار الذي رفعه ماكرون منذ عام 2017 “أنا أو الفوضى”, لكنه ضل الطريق من أجل طموحاته الشخصية للإستحواذ على بريق المسرح العالمي, رغم خطورة خطابه العدواني تجاه روسيا, وتركيزه على “الحاجة إلى هزيمتها”، لتبرير تزويده أوكرانيا ببعض الطائرات المقاتلة, وإظهار “مخاوفه وأسفه وعدم قدرته على تفسيرتضاعف نسب معاداة السامية في فرنسا” على حد تعبيره, في وقتٍ يشدد فيه اليساريون على اتهام لوبان ومحازبيها بمعاداة السامية, ويحذرون من عودة النازية, وسط قناعة الشارع الفرنسي بأن أشد المعادين للسامية اليوم هم من الإسلاميين.
منذ عملية طوفان الأقصى دعم ماكرون “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها”, كذلك لم تخف لوبان دعمها القوي لإسرائيل، وانتقادها لحماس واتهامها بإستخدام المدنيين كدروع بشرية, في إطار محاولاتها لكسب النقاط مع التكتلات والمنظمات الصهيونية, وكل ما يصب في خانة تعزيز العلاقات بين اليمين المتطرف الإسرائيلي والقوميين الأوروبيين.
بإختصار … يبدو أن ماكرون قد بنى مغامرته ونصب فخه عبر الدعوة إلى الإنتخابات المبكرة, والتي تتيح له اختيار بارديلا رئيساً للحكومة, وعدم منحه فرصة النجاح, سيحرم لوبان من الفوز بالرئاسة في عام 2027, وعلى جميع الأحوال, حملت نتائج الانتخابات أخباراً سيئة لليسار الفرنسي, الذي بدأ ينادي بضرورة الوحدة لمواجهة اليمين, وكانت من تجليات نزول عدة اّلاف من نشطاء اليسار المتطرف إلى شوارع باريس, أن تحول المشهد إلى مسرح للصدام مع رجال الشرطة, ولإطلاق الغاز المسيل للدموع والضرب بالهراوات, لتفريق المتظاهرين سواء كانوا من الغاضبين أوأولئك المبتهجين بالفوز, ويطرح السؤال نفسه إلى أين تسير فرنسا وأوروبا عموماً ؟.
م. ميشيل كلاغاصي – كاتب وباحث استراتيجي
Discussion about this post