دمشق – عبدالكريم العفيدلي
– دائما مايحاول كتبة التاريخ المأجورين تشويه الصفحات البيضاء في تاريخ الأمة فنجدهم يكتبونه حسب أهواءهم ومايملي عليهم ضميرهم العفن ، إن مايثير الدهشة إن أكثر من حاول تشويه التاريخ بقصد هم أحفاد من كانوا عبيداً للمستعمر في محاولة يائسة منهم لطمس الحقائق وإخفاء تاريخ أسلافهم العملاء وهم خير خلف لخير سلف للدرجة التي تشعر بها أن العمالة تورث للأحفاد كما هي الوطنية والمواقف المشرفة .
مما أثار حفيظتي بالسنوات السابقة ظهور بعض هؤولاء الذين يربطون بين الأحداث الإجرامية التي مرت بها محافظة الرقة وبين أحداث جرت في حقبة الإحتلال الفرنسي كانت ومازالت تروى بالمجالس وتتناقلها الأجيال بفخر ،فشتان بين من يقارع المستعمر دفاعا عن وطنه وبين من يحمل معولا لهدم وطنه ويسمي عمله ب ” الثورة ” …ولأن التاريخ لا يرحم ويسجل مثلما سجل لمن سبقنا وبظل ما ظهر من تشويه للحقائق حول الثورة الغفانية أو ماتعرفه ذاكرة الرقيين ب”دولة غفان” ، نحاول تسليط الضوء عن هذه الحركة المباركة بعيداً عن ماكتب حولها ويكتب …
– من هو غفان :
هو غفان العلي التركان رجل من الموسى الظاهر – العفادلة ، لم يكن أميراً ولا شيخاً و لم يكن له طموح لذلك ،ولايختلف اثنان من أبناء الرقة على زعامته ورجولته وشهامته فهو الرجل القبلي المملوء بالأنفة والكبرياء الذي يرفض أن يحكم من قبل الأجنبي .
بداية / تموز / ١٩٤١ في ظل تفلت أمني وفوضى سادت المنطقة بسبب التطورات التي رافقت إعلان الجنرال ديغول حكومة فرنسا الحرة وإعلانها السيطرة على المستعمرات الفرنسية ،وحصل في سوريا كغيرها من المستعمرات الفرنسية مايعرف بمنطقة الجزيرة السورية ” فلة الحكم ” .قرر غفان دخول الرقة والسيطرة عليها دون التبعية لأي جهة خارجية وداخلية .
– التخطيط للحركة الثورية :
اجتمع غفان مع ابن عمه عبدالله الخلف الحمد وعرض عليه الفكرة في ٢ / تموز / ١٩٤١م وكان هذا الاجتماع في مغارة مشهورة تسمى ” القاطر” فنصحه ابن عمه أن يعرض الأمر على أقربائه ،فشاور عدد منهم ” فرج الخليل ” ، ” ذياب الحمود ” ،” مصطفى العيد ” فاتفقوا معهم على الفكرة وقرروا دخول الرقة والاستيلاء على دار الحكومة وطرد الفرنسيين وأتباعهم من المنطقة .
وفي فجر ٤ / تموز /١٩٤١م نصبوا الراية على تلة تدعى” المرامر ” تبعد عن ديوان ال الغفان بالكسرة حوالي ٣٠٠ متر ، -انمحت اثار هذي التلة حاليا وأصبحت منازل سكنية – اجتمع عدد من أبناء فخذ الخليفة من الموسى الظاهر – أقرباءه – فأعلن لهم أنه أتفق مع عدد من الرجال على دخول الرقة ،فانضم له عدد منهم وهم يتحادون بالأهازيج :
غفان البيت احنا رواقو …غفان السم يامن ضاقوا
لم يكن غفان طموحاً للقيادة بقدر تنفيذ الأمر الذي عزم عليه ، وهم على شاطىء الفرات طلب من أبناء عمومته أن يستلم أحدهم القيادة وسماهم بالاسم : ” ياعبدالله الخلف ،يافرج الخليل ، يا مصطفى العيد ،يافلان .. يافلان … ” من أرادمنكم التقدم أنا سأكون سيفاً بظهره فأبوا جميعاً وقدموه بأن الفكرة فكرته ولابد أن ينجزها ..
هنا سل سيفه وقام يهوس :
” الرقة الصبح انصبحها
والكفر البيها نذبحها
طيارة بالمي نلگحها
ويجر الفدان ومايجر
عليهم وأنا أ بومجحم ….” فعبروا النهر سباحة والقوارب الصغيرة متسلحين بالأسلحة الفردية ،وكان عددهم لا يتجاوز العشرون رجل ،وهم كما حفظتهم الذاكرة الشعبية : ” غفان العلي التركان ، عبدالله الخلف الحمد ، فرج الخليل ،هلال الخليل ، مصطفى العيد ، محمد العيد ، خلف العباس ، دهموش العباس ،احمد الحمود السالم ، حمود العلو ،حمود النايف ،نجم العبدالله ، حسن الفرج ، احمد الفرج ، ذياب الحمود ”
الهجوم على السرايا :
انقسموا لمجموعتين وهاجموا السراي الحكومي ” المتحف حالياً ” واستطاعوا السيطرة عليه واستسلم الدرك وهرب الفرنسيين تركوا وراءهم المجندين من أهل البلد ،فاستولوا على أسلحتهم وذخيرتهم وأحرقوا اضبارات المساجين وحرروهم من السجون وأشعلوا النار بالسرايا وهم يتحادون :
” الرقة صارت غفانية .. لاجل عيونك ياسورية ”
أي أن الرقة لابناءها لامكان لحكم المحتل فيها ،وهذا لأجل سورية الوطن .
اتجهوا لمطاردة الدرك المنسحب باتجاه معسكر تل ابيض وعملوا على ضبط الأمن في محيط دار الحكومة ولم يتعرضوا للأسواق والبيوت أبدا بل على العكس حاولوا الحفاظ على ممتلكات الناس من النهب والسلب وهمهم كان هو الأسلحة والذخيرة ،في اليوم التالي هاجمتهم المصفحات الفرنسية وتحت الضغط اضطروا للإنسحاب باتجاه قرى الكسرات مع ما استطاعوا حمله من ذخيرة وأسلحة ،ولم يستطع إلقاء القبض على أيا منهم باستثناء ” ذياب الحمود ” الذي أودع السجن ، التجأ المقاومون للمغاور في جبل الكسرات ولازالت مغاورهم التي اختباؤا فيها يعرفها كل أهل المنطقة .
أما غفان فعبر إلى الجزيرة وتحديداً إلى منطقة الحوائج عند أعمامه من عشيرة الولدة وأستشهد في ٤ / آب / ١٩٤١م في المعركة التي افتعلها المستعمر الفرنسي بين عشيرة الفدعان وعشيرة الولدة ،وقصة استشهاده ملحمة يعرفها الولدة جيدا ويتذاكرونها في مجالسهم إلى اليوم وهو من الذين عقلوا أرجلهم وهي عادة الفرسان في هول المعارك كي لايفروا .وعندما جاؤوا بجثمانه وعبروه نهر الفرات على طوافة كان يطلق النار حين مرور جثمانه تحية له في أي زور يمر به وتترافق الأهازيج مع إطلاق النار ومن هذه الأهازيج التي حفظتها الذاكرة :
السفن عبرن وعبرن غفان
سيفٍ ثقيل وحارب البدوان
السفن عبرن وعبرن غفان
ياشاربو من طق الفشق عرقان
دفن جثمانه في مقبرة الأحبش بالكسرات .
ردة فعل المستعمر :
قصف المستعمر منطقة الكسرات بالمدفعية ،وشن حملة اعتقالات واسعة شملت النساء وكان عددهن ” ١٥ ” إمرأة من الموسى الظاهر بغية إجبار المقاومين على تسليم أنفسهم ،وفي هذه الأثناء صادف مرور الشيخ ” محمد الفرج السلامة” فاعترضه رجال من فخذ الحسن من الموسى الظاهر فأخبروه باعتقال النساء فاتجه من فوره إلى السجن وكان المسؤول عن السجن من حلب اسمه فلان الكوسا ،فصرخ به : ” ياكوسا يابن الكوسا انت سجان الشعبانيات .. افتح السجن ” وأخرج بنات عمومته وكان من بينهن امرأة تدعى ” حميسة السالم ” حلفت أن لا تقص جديلتها إلا على محمد الفرج وقالت بحقه كثير من الجيل حين وفاته.
واعتقل المستعمر الفرنسي شيخ قبيلة العفادلة ” بشير الهويدي ” من مضافة ال العجيلي بالمدينة بأمر من مسؤول استخبارات المستعمر ويدعى ” بورا ” يصفه من عاصروه بأنه مجرم لايحترم الأعراف والتقاليد .
واعتقال الشيخ بشير الهويدي لأنه شيخ العفادلة ومن قاموا بهذا الفعل هم أفراد من العفادلة حيث اعتبر أنه محرض مباشر ، ونقل إلى معسكر الفرنسيين بتل ابيض وبقي بالاعتقال لمدة ثلاثة أيام تعرض من خلاله للضرب إلى أن أخرج من المعسكر بهمة بعض الغيارى من عشيرة البو عساف وصادف أن التقاهم بالطريق الشيخ عبيد بن غبين من شيوخ قبيلة عنزة الذي تكفل بايصاله إلى مضافته بقرية المشلب وكانا عدوين لدودين بحكم الصراعات المفتعلة بالمنطقة التي كان يغذيها المستعمر بنفسه .
وقصه تخليص الشيخ بشير الهويدي من الاعتقال تعددت فيها الروايات حول من ساهموا بتخليصه منها ماجاء على لسان الشيخ عبيد بن غبين في حوار قديم له مع مجلة المختلف أنه هو لعب الدور الأساسي في إخراجه من المعسكر دون الإشارة إلى اي احد أخر ساعده في ذلك ،وذكرت هذه الرواية في كتاب ” شيم العرب ” لفهد المارك متناقضة دون ذكر الأسباب التي أدت لاعتقال الشيخ الهويدي .
وذكر الأستاذ محمود الذخيرة في كتابه” أهل الرقة من الناحية البشرية ” رواية مختلفة على لسان محمود العيسى من شيوخ عشيرة البو عساف وان من أخرجه من المعسكر الشيخ سليمان العيسى وبعض من رجاله وجاء به إلى مضافته وطلبوا منه البقاء إلا أنه رفض ،فأوكل إيصاله لأربعة رجال من البوعساف التفاهم الشيخ عبيد في الطريق وهم يحملونه على عربة حصان جر فعرفه فطلب إيصاله إلا أنهم رفضوا إلى أن طلب منهم الشيخ الهويدي تركه مع ابن غبين الذي فعلا أوصله بسيارته لمضافته رغم ماكان بينهما من العداء .
– وبالعودة للمقاومين حاول المستعمر انزالهم من الجبل وعرض عليهم العفو الا أنهم رفضوا حتى جاءهم خبر استشهاد غفان ،وقاموا بمناوشات وغارات فردية على مخافره ودورياته ،إلى أن اضطروا أن يلقوا السلاح تحت ضغط المستعمر وأدواته .
– لابد من القول :
رغم أن كثير من المؤرخين حاولوا تشويه هذه الحركة النضالية المتمردة بوجه المستعمر ،إلا أن الذاكرة الشعبية بقيت وفية لهؤلاء المقاومين وسجل هذا اليوم من أيام الرقة المجيدة ،رغم أنف من وصفهم بأنهم قطاع طرق وغرضهم كان السلب والنهب ،وإن بحثت عن جذور من كتبوا بحقد عن هذه الحركة لتجد أن أجدادهم كانوا خدماً للمستعمر وقد استفادوا منه كثيراً لقاء عمالتهم .
غفان ورفاقه لم يكونوا ممن ارتهن للأجنبي وحلم بإمارات بدعم الإستعمار ، لم يحركهم إلا الدافع الوطني وغيرتهم ورفضهم الذل وحكم الأجنبي.
Discussion about this post