نبيه البرجي
في أواخر الثمانينات من القرن الفائت، وخلال حفل استقبال في فندق «المريديان» في دمشق، تقدم مني رجل ضخم، سألني «حضرتكَ فلان»؟ قلت «نعم». فوجئت بقوله «أنت خربت بيتنا». رددت «أنا لا أخرب بيت فراشة، فكيف لي أن أخرب بيت شخص بحجمكَ»؟
عاد الرجل قليلاً الى الوراء، وقال ان الرئيس حافظ الأسد «كان في صدد التوقيع على قانون يتعلق ببعض الاجراءات الخاصة بالتحول الى الاقتصاد الليبرالي. وحين قرأ مقالكَ تمنّع عن التوقيع».
كان عنوان المقال «التاجر الدمشقي يبيعكَ ابريق الماء على أنه البحر الأبيض المتوسط «. وفيه كتبت أن اي اجراءات ليبرالية في الاقتصاد بمفاهيمها الفضفاضة، وأحياناً الفوضوية، تستتبع تلقائياً الدخول في الليبرالية السياسية. وهي مسألة قد تكون لها تداعياتها الدراماتيكية في دولة، لطالما لعبت بها الرياح الاقليمية والدولية، لتشهد سلسلة من الانقلابات التي أوقفت الزمن لسنوات وسنوات.
هل كان الخطأ في الاجراءات الليبرالية التي ركزت على المدن، وأهملت الأرياف (نظرية عبدالله الدردري)؟
شاقة ومضنية، أيضاً مكلفة الكتابة في التراجيديا السورية، لأن هناك بعض الرؤوس الخشبية التي تصنّف الكاتب في خانة الأعداء أو العملاء، حتى ولو قال ان سقوط النظام السوري ان في أيدي المغول الجدد، أو في أيدي السلاجقة الجدد، يعني أن مئات آلاف اللبنانيين سيكونون ضيوف شرف اما على المخيمات أو على الأقفاص أو على القبور. النظام اياه الذي لولا مساعداته لبقيت الأقدام الهمجية في الجنوب االلبناني، ولكان مصير المدن والقرى مثل مصير نابلس والخليل وجنين…
في ضوء ما يتناهى الينا، يفترض أن نكتب بصراحة لأننا ضنينون بسوريا، وهي قلب المنطقة، وبأهل سوريا الذين هم أهلنا، بعيداً عن أولئك المسؤولين الذين اعتادوا أنواعا معينة من الببغاءات، أو على أصحاب العيون العرجاء. هؤلاء الذين لم يستخلصوا الأمثولة من التجربة الهائلة التي عاشتها وتعيشها بلادهم. ولا أتصور أنهم يشعرون بهموم أو بعذابات الرئيس بشار الأسد .
مثقفة من الريف الساحلي قالت لنا «لم نعد نعيش في هذه المنطقة تحت خط الفقر، بل تحت خط الموت». أمثلة لا تحصى عن كونسورتيوم الفساد الذي يتمدد عمودياً وأفقياً داخل (أو فوق) المجتمع السوري. يتزامن ذلك مع العودة الأخطبوطية للمدّ الأصولي.
من يستطيع التأكيد أن الأصوليين وهذه المرة أيضاً، لا يحفرون الخنادق تحت أقدام النظام، ودون أن يقتنع الناس بقول بعض المسؤولين من أن هذا الوضع يجعلهم «في مرمى عيوننا». أين كانت عيونكم أيها الرفاق الذين تخنقون كل معترض، لا سيما الذين يحاولون الصراخ في وجه الفساد وبارونات الفساد؟
هذا كلام سوريين موالين (حتى العظم) للسلطة. خوف من حالة الاحتقان التي بدأت تظهر لدى الكثيرين من أصحاب الأيدي النظيفة والضمير النظيف. هذه الحالة نشأت عن عوامل شتى، منها انتشار الرشى على كل المستويات، وبصورة تظهر مدى الاهتراء في البنية الأخلاقية للدولة، مع تسجيل حالات من القمع لكل من يحاول أن يسلط الضوء على نقاط الخلل.
ماذا يريد الأميركيون والاسرائيليون أكثر من تحلل الدولة، وتحلل المجتمع في سوريا، كمدخل لتقويض الروح السورية التي طالما اختزلت روح العرب…؟
كلنا نعلم أي حصار جهنمي فرضته الولايات المتحدة على سوريا. الذرائع أشبه ما تكون بذرائع الذئاب. هل كانوا ينتظرون من بشار الأسد تسليم مفاتيح دمشق لأولئك البرابرة؟ هذا كان رهانهم أن تتمزق سوريا قطعة قطعة. ولكن ألا يتحدث الناس عن التماهي بين مصاصي الدماء ابان الحرب ومصاصي الدماء ما بعد الحرب؟
بطبيعة الحال، الحرب، لا سيما الحرب الأهلية، لا تنتج القديسين. المشكلة في ما يحكى عن العلاقات الزبائنية بين بعض رجال السلطة وعرابي المافيات، الذين يتحكمون بقطاعات ترتبط عضوياً بأشياء الحياة.
كثيرون، وبينهم على سبيل المثال، صحافي يعمل سائق تكسي، وآخر عامل دليفري، يصلون في شكواهم الى حد البكاء أمام تلك الطبقة من الديناصورات، التي تشكلت من أثرياء الحرب…
أثقال كثيرة على كتفيْ بشار الأسد. أثقال الداخل هي الأكثر مرارة. باقتضاب… ظلم ذوي القربى!!
Discussion about this post