لا تزال سوزان وولف اسماً مجهولاً لدى القرّاء العرب، حالها في هذا حالُ كثيرٍ من الفلاسفة والمفكّرين المؤثّرين، في وقتنا الراهن، ضمن رقعةٍ جغرافية واسعة تقع غرب المعمورة. وإذا كانت ترجمة الفكر وتلقّيه قد حظيا باهتمام متصاعد لدى دور النشر العربية خلال السنوات الأخيرة، فإنّ هذا الاهتمام لا يزال يتمركز حول الأسماء نفسها، أي تلك الأسماء التي لمعت في المشهد الفكري خلال فترةٍ من القرن العشرين: من ألتوسير وفوكو ودريدا ودولوز وبودريار إلى أدورنو وهوركهايمر وفيتغنشتاين ورسل وغيرهم. تُستثنى من هذه القطيعة مع جديد الفكر الغربي أسماءٌ قليلة جدّاً فقط، من بينها، على سبيل المثال، المفكّران الكاميروني آشيل مبيمبيه والألماني هارتموت روزا.
الحال في ما يخصّ سوزان وولف ــ وهي مفكّرة أميركية وأستاذة فلسفة الأخلاق في “جامعة كارولاينا الشمالية” ــ ليس أفضل في فرنسا؛ ويكفي أن نعرف أنّ “معنى الحياة”، الصادر حديثاً عن منشورات “إليوت” في باريس، هو أوّل أعمالها وصولاً إلى لغة موليير (صدر في الأصل الإنكليزي عام 2012).
قد يُحيل عنوان الكتاب، للوهلة الأولى، إلى تلك القائمة الطويلة من أعمال عِلم النفس أو التنمية الذاتية العديدة حول هذا الموضوع، غير أنّ كتاب وولف (1952) بعيدٌ تماماً عن هذه الخانة، رغم مقاربته لموضوعٍ محبَّب لدى النفسانيّين ومؤلّفي كتبي التنمية الذاتية. ويكفي، للتدليل على اختلافه، النظرُ إلى مُلحق النقاشات الذي يُذَيَّل به الكتاب، والذي يضمّ ردوداً على الأطروحة التي تأتي بها المؤلّفة، وهي ردودٌ وضعها عددٌ من المختصّين بالفلسفة الأخلاقية وعلم النفس المعاصرين، والتي تولي لها وولف ردوداً تفصيلية أيضاً تفنّد فيها محاججاتهم وتُجيب فيها عن أسئلتهم.
إذن، ما هي الأطروحة التي تقدّمها المؤلّفة؟ بخلاف تقليدٍ فلسفيّ مديد يرى أنّ معنى الحياة يكمن في السعادة أو الطمأنينة، تُخبرنا وولف أنّ علينا العثور على المعنى في التزامنا وحبّنا لما يُحيط بنا من أشخاص وأشياء. تقول: “يتأتّى المعنى من الحبّ الذي نحمله لأشياء تستحقّ أن نحبّها وأن نُبدي التزاماً تجاهها”. وتضيف أنّ الأساسي في هذا المقام هو أن نتصرّف “بحُبّ”، وعلى أساس الحُبّ، الذي يتطلّب خروجاً من الذات ومن مصلحتها. أساسٌ تميّزه المؤلّفة ــ وهو أيضاً ما يميّز أطروحتها ــ عن الأطروحتين المعروفتين في تاريخ الفلسفة الأخلاقية: أي التصرُّف بحثاً عن السعادة الشخصية (كما هو الحال عند أرسطو والرواقيين وكثير من فلاسفة الحداثة وما بعدها)، الذي ترى أنه نابعٌ من عقلانية نرجسية، أو التصرّف وفقاً لشريعة أخلاقية (كما هو الحال عند كانط)، والذي ترى أنه قائمٌ على تجريدٍ بعيدٍ عن كلّ تجربة ملموسة. فتجارب مثل حياكة ملابس للأولاد، والتطوّع في مؤسّسة، وممارسة الرياضة، أو كتابة الفلسفة، أو العزف على آلة موسيقية، تتطلّب وقتاً ومجهوداً نمنحهما من أنفسنا ولا يمكن شرحهما وفق التفكير النرجسي الساعي وراء السعادة، أو وفق التطلّب الأخلاقي الكانطي ــ وهو ما يدعو المؤلّفة إلى القول إنّ هذه الأفعال يمكنها أن تعطي معنى لحياتنا لأنّنا نقوم بها “بحُبّ”، تجاه أشخاص وموضوعات وأشياء مختارة بعينها، وتستحقّ من وجهة نظرنا هذا الحب وهذا الوقت والانتباه الذي نوليها إياه.
وتُضيف سوزان وولف ملاحظةً هنا: فأداء هذه الممارسات، بحدّ ذاته، لا يكفي. وهي بذلك تقول، بعبارة أُخرى، إنّ البُعد الذاتي لا يكفي لإعطاء معنى للحياة، بل يجعلنا فقط نمارس هواياتٍ أو نقضي وقتاً بالتسلية. وهي تضيف أنّ على هذا البُعد الذاتي أن يترافق مع قيمة موضوعية لما نفعله، أي، مثلاً، أن يكون لاعتنائنا بالأولاد أو بتدريس الفلسفة معنى موضوعي في نظر الآخرين، وأن نستطيع الجمع بنجاح بين هذين البُعدين: أي أن “نُنجز” ما نحبّ إنجازه وأن نذهب به إلى نتائج مُرْضية.
معادلةٌ من ثلاثة حدود ترى أنّها ضرورية لمنح الحياة معناها، وهو ما لا يبدو غريباً أو مُفاجئاً، خصوصاً إذا تذكّرنا أطروحات مثل تلك التي جاء بها عالم الأنثروبولوجيا الأميركي ديفيد غرايبر (1961 ــ 2020) حول “الوظائف التافهة”، والتي تُفيد بأنّ المرء لا يشعر بمعنى لجهد وعمله، وحياته بشيء عام، حين يرى أنّ ما يقوم به لا قيمة له، بل إنّه يرضى عن حياته حينما يفعل أشياءً تُسعده وتبدو ذات فائدة لغيره.
Discussion about this post